تحدثنا عن بعض إعجاز البيان في القرآن (إن من البيان لسحرا) وأعظم بيان هو القرآن. وتحدثنا عن الكلمات المتشابهة والتفريق بينها وإعجاز الكلمة التي جاءت في موطنها المناسب وجرسها المناسب. واليوم نتحدث باختصار حول الحرف القرآني. نتحدث في البداية عن الحروف في بدايات السور ثم نتحدث عن إختيار يعض الحروف والتقديم والتأخير في حروف الجر فمرة يقول (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) ومرة (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) وأمثال هذه المعاني في حروف القرآن.
الحروف المقطعة: حروف القرآن هذه الحروف المقطعة التي تبدأ بعض السور هذه الحروف جاءت واحتار فيها العلماء ما هذه الحروف؟ وجاءت تفاسير غريبة جداً في هذه المسألة وحاولت أن أتتبع هذه الآراء ولعل أفضل ما قيل فيها أنه سرٌ من أسرار كتاب الله عز وجل لكن لا يمنع أن نأتي ببعض ما قاله العلماء في الإشارة إلى معناها وأكثر ما يرضيني أنها جاءت للتحدي والإعجاز بالإشارة إلى مصدر القرآن. هذا القرآن يضعه بين أيديكم أيها المنكرون يتكون هذا القرآن المعجز الذي تحداكم أن تأتوا بآية من مثله يتكون من هذه الحروف كأنه يقول: القرآن كلام عربي مبين معجز وأنتم تتكلمون العربية ومن هذه الأحرف تكوّن القرآن فصوغوا منها كلاماً مثل القرآن في الفصاحة والبلاغة والبيان فإن عجزتم فاعلموا أنه كلام الله. هذا أحسن ما سمعت في الإشارة للحروف المقطعة وإن كان بعض العلماء له رأي خاص فيها. إختيار الحروف في بدايات السور إلى نسبة تكرار هذه الحروف في تلك السورة مثلاً إذا قال (حم) فإن نسبة تكرار هذان الحرفان أعلى من غيره في السورة وهذه مسألة تحتاج إلى معادلات لنتأكد منها فإذا كانت كذلك فهي إعجاز لكن إلى الآن لم يقم أحد بالتأكد من هذه المسألة. لكن يكفينا أن هذه الحروف أساس القرآن وبالتالي أنتم عرب تستعملون هذه الحروف فاستعملوها وكوّنوا منها جُملاً تنافس القرآن فإن عجزتم فهو كلام الله المعجز.
الحرف القرآني (هاء الرِفعة): ننتقل إلى بعض الإعجاز في الحروف ونبدأ بحرف خاص في القرآن يسمى هاء الرِفعة. قليل من سمع بهاء الرِفعة في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (1) الفتح) نتوقع أن يكون (عليهِ) بالكسر لكن تغيّر الحرف وصار (عليهُ). الأصل أن تكون الهاء مكسورة لأنها ضمير للمفرد الغائب ومكسورة. إذا سبقها حرف الجر (على) أو (إلى) أو (من) أو (في) أو الباء تكون مكسورة فلماذا تحولت كسرة الهاء إلى ضمة وصارت (عليهُ)؟ هذا من عجائب القرآن. ومن ناحية اللغة العربية والقواعد والبيان ودقة الإعراب هذا صحيح لا يجادل إنسان أنها فصيحة لكن لماذا استعملت مرفوعة؟ هذه يسمونها هاء الرِفعة. القصة في الآية تتحدث عن بيعة الرضوان التي بايع أصحاب النبي r رسول الله r في الحديبية وقد روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله: يوم الحديبية كان الصحابة 1400 صحابي...... قال r: كلكم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر، قال أنت اليوم خير أهل الأرض. وسميت الشجرة شجرة الرضوان وسميت البيعة بيعة الرضوان لأن الله تعالى يقول فيها (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (1) الفتح). الحديث عن أشرف المواطن وهذا الجو جو رفيع كريم يصفه الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) إذن هو تشريف وتكريم من الله العزيز العلي للصحابة السعداء بهذه البعثة وبما أن الجو جو رفعة فكأنها أصابت الهاء فتحولت إلى (عليهُ) ولا يتناسب الكسرة فتحولت إلى ضمة والضمة مناسبة للرفعة لذا أطلق العلماء عليها هاء الرِفعة. والآية تتحدث عن الوفاء بالعهد والبيعة وهذا دليل على صدق المبايِع ورفعته وسمو خُلُقه ولولا ذلك ما وفّى المبايع بعهده لذا جاءت الهاء مضمومة لترتفع مع إرتفاع هذه الأجواء.
هاء الخفض: في المقابل عندنا هاء الخفض وهي مقابلة لهاء الرِفعة وهي الهاء التي دخل عليها حرف الجر (في). الآية تتكلم عن عباد الرحمن (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)) إلى قوله تعالى (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)) الأساس أن يقول (فيه) بدون أن تتحول الكسرة إلى تقريباً ياء (هنا لا نقرأها (فيه) بكسرة صغيرة وإنما نطيل الكسرة) وعلماء القراءات والتجويد على إشباع كسرة الهاء في (فيه) مع أن الهاء في مثيلاتها يكتفى بكسرها (الهاء إذا وقع بهدها حرف متحرك تمد مداً طبيعياً بمقدار حركتين إلا إذا كان بعدها همزة فتمد بأكثر من حركتين). لماذا قلنا (فيهِ)؟ السياق الذي وردت فيه هو الذي يحدد أنه قد سبقها ذكر مجموعة من المعاصي والفواحش التي لا يفعلها عباد الرحمن (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (6)) ثم ذكرت الآية ما يترتب على هذه الكبائر من خلود مرتكبها في جهنم ذليلاً مهاناً خاسئاً لذا نقول (فيهِ) كأننا نتصور إلقاء صاحب هذه المعاصي في جهنم وهويّه إلى قاعها. عندما نقرأها (فيهِ) بالمد كأننا نساعد على إنزال المجرم في جهنم ومسارعة سقوطه فيها حتى لما يقرأها القارئ ويمدها أكثر من حركتين يتصور نفسه ونفَسه ينزل هذا الموقف وذلك يساعد على الإنزال والخفض ولهذا سميت هاء الخفض والله تعالى أعلم. إعجاز عجيب كيف تتحرك الحركات لتتناسب مع أجواء الكلام.
تاء الخِفّة: من الحروف التي ينتبه لها معظم الناس ولا ينتبهوا لمعانيها ما يسمى بتاء الخِفّة وقد جاءت في قصة موسى u مع الخضر u. نجد أثناء الكلام كلمة (تسطع وتستطع) فلماذا جاءت مرة تسطع ومرة تستطع؟ نقف على تاء محذوفة من أجل التخفيف وهي تشير إلى لطيفة من لطائف القرآن. عندما إلتقى الخضر بموسى u قال له أنه لن يستطيع أن يصبر على الأمور التي قد تحدث معهم فقال له موسى أنه يستطيع فطلب الخضر من موسى u أن لا يسأله عن شيء حتى يخبره فانطلقا وخرق الخضر السفينة فاعترض موسى u فذكّره الخضر بعهده فاعتذر موسى وبيّن له أنه كان ناسياً. وانطلقا فقتل الخضر الغلام فاعترض موسى u إعتراضاً أشد فذكّره الخضر بعهده فاعتذر موسى وأخبره أنه في حِلٍّ من الصحبة إن سأله بعد ذلك فانطلقا وذهبا إلى قرية بخلاء فوجدا جداراً على وشك السقوط فأقامه الخضر ولم يأخذ عليه أجراً فاعترض موسى u أنه كان يجب على الخضر أن يأخذ أجراً فقال له الخضر (قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (7)) وبيّن له حقيقة الأحداث الثلاثة لماذا خرق السفينة ولماذا قتل الغلام ولماذا أقام الجدار؟ ثم ختم كلامه بالقول (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)). إذن نلاحظ وجود التاء في تستطع في الآية الأولى ثم حذفت في الآية الثانية (تسطع). التغيير هذا لأن موسى u شاهد مع الخضر ثلاثة أفعال غريبة وغير معقولة في الظاهر وتدعو إلى الإنكار فكيف يخرق الخضر سفينة مساكين حملوهما عليها وكيف يقتل غلاماً صغيراً ليس له ذنب وكيف يقيم الجدار لقوم بخلاء بدون أجر؟ فوقع موسى u في حيرة في تعليل هذه الأحداث وكأن صار في همّ نفسي ما الذي يفعله الخضر؟ وصار عنده شعور ثقيل ولاحظ سياق القرآن هذا الهمّ النفسي الذي عند موسى فكأن الحرف القرآني يتفاعل مع هذا. لما جاء الهمّ النفسي جاءت التاء مع الفعل لتتفق مع الثقل، هذا الثقل النفسي الذي عاشه موسى u وهذا ناسب قول الخضر (ما لم تستطع عليه صبرا) فيها ثقل وفيها طول. بينما حذف التاء مع زوال الثقل النفسي بعدما علل الخضر لموسى حقيقة الأحداث وأنه ما تصرّف من عند نفسه (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) وإنما خرق السفينة لتنجو من مصادرة الملك الظالم وقتل الغلام ليستريح أبواه الصالحان من كفره وأقام الجدار ليبقي على كنز لغلامين يتيمين وكان الكنز تحت الجدار. عرف موسى u أن الخضر على حق وأنه لم يفعله إلا بإذن الله تعالى فزال الهمّ من نفسه والثقل النفسي الذي عاشه فزالت التاء من الفعل (تسطع). قاعدة: عندما يكون هناك همّ نفسي نزداد الكلمات طولاً وثقلاً وعندما يزول الهمّ النفسي نجد أن هذا يزول.
مثال آخر (استطاعوا واسطاعوا) لما وردت في سورة الكهف قصة ذو القرنين لما عبّر القرآن عن تسلق السد والظهور فوقه حذف التاء (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ (97)) بينما عبّر عن عجزهم عن نقب السد فقال (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا). فالصعود والعبور يحتاج إلى خِفّة (اسطاعوا) أما الحفر ففيه شدة وتعب فناسب أن يضيف التاء (استطاعوا). إذن للخفّة إستعمل اسطاعوا وللتعب والجهد استعمل استطاعوا. أي إعجاز هذا؟!
هل من كاتب في الدنيا يراعي هذه التفاصيل؟ هذه الكلمات ما جاءت في القرآن عبثاً فكل حرف في كتاب الله في مكانه وهذا من إعجاز القرآن